الأرض تتمدد في ذاكرتي سهلاً منبسطًا، مغطاة برمال ناعمة ناصعة، تهدهدها الرياح وتغني لها بألحان الماضي، كأنني أسمع أحد العظماء يردد: “الرملة الدقاقة.” حولنا الأشجار باسقة مخضرة، وسماء ملبدة بسحب داكنة تصاحبها أصداء الرعد ولمعان البرق. وبين هذا المشهد، نسيم عليل معبق برائحة المطر—نسميه “الدعاش”.
كنا نحن والماشية نعرف جيدًا ما تعنيه تلك المتغيرات: موسم الأمطار قد أطل. ومعه عاد السمبر، ذلك الطائر الذي يطلق صفيره المميز في أرجاء القرية، يحتل وسطها بأعشاشه القديمة. لم يكن السمبر ضيفًا عابرًا؛ بل كان مواطنًا أصيلاً من سكان هذه الأرض، يعود إلى أعشاشه كل عام كأنه صاحب بيت قديم. لم تكن عودته مجرد حدث عابر؛ بل بشرى بأن موسم الزراعة قريب، وأن الأرض ستنعم بخير وفير.
وكنا كأطفال نحاول أحيانًا أن نخيفه بحركات طفولية عابثة، فتنهانا عمتي أم ضيفان عليها رحمة الله، بقولها: “الكلجو جار، والنبي وصّى على الجار.” تمر السنوات، وأتأمل تلك الكلمات الآن بدموع الحنين والشجن. فقد كانت عمتي رمزًا للنبل والبساطة، امرأة فاضلة عاشت على مبادئ سامية، وكان لها حمار أسمته “جنجويد”. من المفارقات العجيبة أن هذا الاسم الذي كان يومًا مجرد نكتة، أصبح اليوم مصدر شؤم وحزن في بلادنا.
عمتي أم خوال، الشقيقة الكبرى لوالدي، غادرت هذه الدنيا في خريف عام 1989 بعد أن تجاوزت المئة من عمرها، تاركة خلفها إرثًا من الذكريات التي ما زالت تعيش في وجداني.
طفولة مليئة بالمغامرات
قضينا طفولتنا نجوب البقاع، نرعى الماشية، نصطاد الطيور، ونجمع العسل من باطن الأرض. هناك نوع من النحل يبني أعشاشه تحت التراب، بطريقة هندسية بديعة، تاركًا أنبوبًا صغيرًا يقوده إلى مستعمرته المحصنة ضد الماء وكل تقلبات الطبيعة—إلا الإنسان.
هذا المخلوق العجيب الذي يتغول على كل شيء، لم يكتفِ بإفساد الأرض، بل يطمح الآن إلى غزو الفضاء بحثًا عن عوالم أخرى، بعد أن ضاقت الحياة به على هذا الكوكب.
الحلم والطموح
كنت طفلاً يحلم بدنيا بلا أحقاد، بلا حسد ولا تنافس على رزق أوجده خالق واحد. كنت أحلم بيوم أخاطب فيه الناس عبر الراديو! نعم، قد يبدو حلمًا غريبًا لطفل نشأ في الريف، خلف الشياه والأبقار، وفي قريته البسيطة التي كانت تُزين أيامها أسواق الجمعة والإثنين، أسواق كانت أشبه بمهرجانات للحياة. هناك كان الناس يتسوقون، ويرقصون على إيقاع المردوم والنقارة، ويضحكون ويمرحون دون ضغائن.
وإذا نشب خلاف بينهم، توجهوا إلى محكمة العمدة موسى رحمه الله، الذي كان يفصل في كل القضايا مهما تعقدت. وفي حال المرض، لم يكن هناك سوى المركز الصحي الوحيد، يديره عمي عبدالله بدر عليه رحمة الله. كان عمّي نموذجًا للرجل التقي المتواضع، رجل ذو هيبة ووقار، يوفق بين دوره كإمام في المسجد وطبيبه في المركز، يساعده في عمله عمّنا الطاهر جلال الدين، ذلك الرجل الذي جمع بين الأخلاق الرفيعة وسلامة الطوية.
تأمل في الماضي والحاضر
أتأمل تلك الحياة الجميلة التي عشناها في قريتنا، وأقارنها بما نحن فيه اليوم. كيف تحولت الأحلام البسيطة إلى سراب؟ وكيف تلاشت القيم التي نشأنا عليها في زحمة الأيام؟
قراءة في دفتر الحلم القديم
لا أدري لماذا كان أنفي ينزف كثيرًا خلال سنوات طفولتي. كان الرعاف يلازمني باستمرار، وأحيانًا أستيقظ لأجد فراشي وثيابي ملطخة بالدماء. كانوا يصبون الماء البارد على رأسي كطريقة إسعافية، وإن كنت لست متأكدًا من فعاليتها علميًا، إلا أن النزف كان يتوقف عندما أرفع رأسي إلى الأعلى مرارًا.
كنت أحلم أحلامًا غريبة عندما أنام، كأنني أسبح في الفضاء. ربما كان فقدان الدم بسبب الرعاف يجعلني أشعر بالدوار، فيظهر ذلك في الأحلام على شكل طيران. وربما كانت تلك الرؤى تعكس طموحاتي الكبيرة التي تتجاوز واقعي، وكأنني أُعوِّض ما لا أستطيع تحقيقه في اليقظة. سأترك تفسير هذه الأحلام لأهل الطب وعلم النفس. المهم أنني كنت سريع النوم.
بعد أن ترتع ماشيتي وتشبع وترتوي من مياه الرهود و”الأضاي” (وهي موارد المياه التي يعتمد عليها أهل كردفان، ومنها جاءت تسمية الأضية زكريا غرب كردفان والأضية قرعان في منخفض وادي شوشاي بين شمال وجنوب كردفان)، كنت أنام بعمق تحت ظلال الأشجار. لكن النوم العميق أوقعني في مشكلات مع المزارعين أحيانًا، وكان والدي يعاقبني على ذلك بجلدة عنيفة بسوط من شجر العِرد.
في أحد الأيام، فاجأني الرعاف بينما كنت قريبًا من مزرعة عمّنا حسين، وهو من أشد المزارعين حزمًا ولا يتهاون مع الرعاة. كان الرعاة يتجنبونه خوفًا من ردّ فعله، إذ إنه لا يتردد في تلقينهم درسًا قاسيًا إذا اقتربوا من مزرعته.
في ذلك اليوم، وبينما أرعى أغنامي قرب “الكلنكي”، بدأ أنفي ينزف بغزارة. اجتازت الأغنام السياج وعبثت بالمزرعة، وبينما كنت أحاول إيقاف النزف، سمعت صوت عمنا حسين غاضبًا، يصرخ ويتوعد. رفعت رأسي وقلت له: “أنا برعف!” لكنه لم يسمعني جيدًا وسألني باستنكار: “بتلعب؟”
وعندما اقترب مني ورأى الدماء، ذُهل ونسى أمر مزرعته تمامًا. هرع نحوي بقلق وحاول إسعافي، ونجح بالفعل في إيقاف النزف. حاول أن يحملني، لكنني طمأنته أنني أستطيع المشي. لم يتركني حتى أوصلني إلى القرية، وأخبر أسرتي قائلًا بلهجة بقارية محببة: “بتن ما تخلوه يسرح وحيده.”
والغريب في الأمر أنه لم يتحدث مطلقًا عن الأضرار التي لحقت بمزرعته بسبب الأغنام. تأمل تلك الروح الجميلة! قوم كأنهم من طينة مختلفة عن البشر الذين يعيشون اليوم.
هذا دفتر الحلم الذي أفتحه اليوم ليس مجرد استذكار للماضي، بل محاولة لفهم الحاضر واستشراف المستقبل. إنها دعوة للتأمل في ما كنّا عليه وما يمكن أن نصبح عليه. فالأحلام التي نسجتها طفولتنا لم تنتهِ، والبقية تأتي…
📝 خالد شرف الدين أحمد