
في كل عام، تحتفل الدول الإفريقية بذكرى استقلالها، ولكن هل تحررت إفريقيا حقًا من سطوة الغرب؟ في ظاهر الأمر، تمتلك هذه الدول حريتها، لكن عند التمعن، نجد أن الاستعمار غرس العديد من الفخاخ وصاغ المبررات التي تجعلنا مستعمرين دائمًا. فمتى تستفيق إفريقيا حقًا؟ وإذا استفاقت، هل تستطيع مجابهة كل المؤامرات التي تحاك ضدها؟
إرث الاستعمار: تقسيم وفق المصالح
قُسّمت إفريقيا وفق رؤية استعمارية بحتة، تخدم مصالح القوى المستعمرة التي حرصت على الاحتفاظ بجزء من “قطعة الحلوى” الخاصة بها. ورغم منح الاستقلال، إلا أن الدول المستعمِرة ظلت متواجدة داخل الدول الإفريقية بطريقة أو بأخرى، إما عبر الاقتصاد، أو النفوذ السياسي، أو التدخل العسكري المباشر وغير المباشر.
لطالما نظر الغرب إلى إفريقيا من منظورين: ديني واقتصادي. فمعاناة الدول الغربية من الأزمات الاقتصادية دفعتها إلى نهب ثروات إفريقيا لتحسين أوضاعها، وخلال هذه العملية، اكتشفت المزيد من الثروات المدفونة في القارة. ولكن بعد أن بدأت إفريقيا تستفيق وتسعى لحريتها، لجأت القوى الاستعمارية إلى وسائل جديدة لإبقاء السيطرة عليها، مثل وضع العراقيل أمام أصحاب الأرض لمنعهم من الاستفادة من ثرواتهم إلا عبر المستعمر القديم.
الاستعلاء الاستعماري وطمس الهوية الإفريقية
حاول المستعمرون ترسيخ فكرة تفوق العرق الأبيض، وإقناع الشعوب الإفريقية بأنها أقل شأنًا، وأن الغرب هو النموذج المتحضر القادر على إيجاد الحلول. كما أضعفوا ثقة الإنسان الإفريقي بنفسه، وجعلوه يشعر بالدونية والعجز، وهو ما تجلى بوضوح في تجارة الرقيق، حيث تم استعباد الأفارقة وبيعهم للعمل في الحقول والمناجم، في واحدة من أسوأ فصول العبودية في التاريخ.
ولم يكتف الاستعمار بذلك، بل سعى لتقسيم المجتمعات الإفريقية داخليًا عبر خلق طبقات اجتماعية متصارعة، وإثارة النزاعات العرقية والدينية، ليظل الصراع قائمًا حتى بعد خروج المستعمر، بما يخدم مصالحه.
التعليم كأداة للاستعمار الفكري
بعد الاستقلال، كان التعليم هو أول ما سعت إليه الدول الإفريقية، ولكن للأسف، تبنت معظمها النظم التعليمية للدول المستعمرة. هذا الانبهار بالفكر الغربي جعل إفريقيا دائمًا تحت مظلة الاستعمار الفكري والثقافي. وزاد الطين بلة، أن هجرات الأفارقة ظلت تتجه إلى الدول التي استعمرتهم، وكأنها الوجهة الطبيعية، نتيجة لترسيخ فكرة تفوق تلك الدول.
هذه العوامل مجتمعة أدت إلى صراعات داخلية وفتن أشعلها الغرب متى شاء، وفقًا لمصالحه. وقد نجح في تقسيم دول وإحداث انقسامات داخلية، مثلما حدث مع انفصال جنوب السودان، حيث لعبت الأدوات الغربية دورًا رئيسيًا في تعميق الفجوة بين الشمال والجنوب، مستغلة الشعور بالاستعلاء من جهة، والدونية من جهة أخرى.
السودان نموذجًا: حرب تخدم أجندات غربية
ما يحدث اليوم في السودان ليس مجرد حرب ضد ميليشيا الجنجويد، بل هو صراع أوسع تحركه أجندات غربية. فقد استغل المستعمر مشاعر الغبن لدى بعض القبائل، وعزز إحساسهم بالدونية تجاه الشمال، ليكونوا داعمين له في حربه ضد الدولة، مستخدمًا الفقر والجهل كوقود لهذا الصراع.
التحكم في إفريقيا عبر المنظمات الدولية والقواعد العسكرية
تتحكم القوى الغربية في الشعوب الإفريقية عبر منظمات دولية لا تخدم سوى مصالحها، مستخدمة شعارات حقوق الإنسان كغطاء لتدخلاتها. وبحجة حماية المستضعفين، أنشأت قواعد عسكرية منتشرة في القارة، مما يطرح تساؤلات حول أسباب هذا الانتشار المكثف، لا سيما في منطقة القرن الإفريقي.
كما أن الوجود الفرنسي في تشاد، والتدخل البريطاني في كينيا والصومال وجيبوتي، والتوسع العسكري الأمريكي، كلها مظاهر لاستعمار حديث يرتدي أقنعة جديدة.
صراع القوى الكبرى على إفريقيا
مؤخرًا، بدأت روسيا تهتم بإفريقيا، محاولة وضع موطئ قدم لها، مدفوعة برغبتها في تعويض غيابها عن المشهد الاستعماري السابق، إلى جانب استخدامها لدعم الدول الإفريقية كورقة ضغط ضد الغرب، خاصة في سياق الصراع مع أوكرانيا.
كما تقدم روسيا لبعض الدول خدمات أمنية مقابل عائدات مالية، دون الحاجة إلى بناء قواعد عسكرية، مما جعلها لاعبًا مؤثرًا في القارة. وبالمثل، لا يمكن تجاهل التواجد التركي في القرن الإفريقي وليبيا، والتغلغل الإسرائيلي، بالإضافة إلى التدخلات الإماراتية، والتي يعد السودان أحد أبرز نماذجها.
هل تستطيع إفريقيا مواجهة الاستعمار الحديث؟
كل هذه التدخلات تطرح سؤالًا جوهريًا: هل تستطيع إفريقيا أن تواجه هذه الموجة الجديدة من الاستعمار؟ الإجابة تكمن في قدرة الشعوب الإفريقية على استعادة وعيها وهويتها، وبناء أنظمة سياسية واقتصادية مستقلة تحررها من التبعية.
إن معركة إفريقيا الحقيقية ليست فقط في طرد الاستعمار بشكله التقليدي، بل في تحررها الفكري والاقتصادي والثقافي، حتى لا تبقى رهينة لمصالح القوى الكبرى.