
سرحت بأفكارها، متأملةً كيف أن اللقاءات التي جمعتها به كانت قليلة، لكنها، رغم قلتها، تركت أثرًا لا يُمحى. في كل مرة تراه، كان حضوره في داخلها يصبح أقوى، كأنما يتغلغل في أعماقها بلا استئذان.
الحياة غريبة حقًا… تضع أمامك شخصًا دون مقدمات، ثم تجعله محور حياتك، تمنحك الأمان، تداعب مشاعرك، وحين تبدأ بالتعلق، تختبرك بالحرمان. يا لها من لعبة قاسية.
لم يكن بيدها حيلة وهي تراه يبتعد شيئًا فشيئًا. باتت الأحاديث بينهما نادرة، المسافات تتسع، والأعذار تتكرر. كانت روحها تذبل وهو لا يكترث، تتساءل مرارًا: هل كان حبًا حقيقيًا أم مجرد وهمٍ صنعته وحدها؟
أرهقتها الحيرة، ولم تجد بدًا من الرحيل، فاستجمعت شجاعتها، تركت قلبها خلفها، ومضت في طريقها.
مرت سنوات… ظنت أنها تعافت، أن الزمن قد محا آثاره، لكن بعض الجروح لا تندمل، وبعض الحب يبقى بلا تفسير، كأنه جزء من كياننا، يسكننا للأبد.
وفي أحد الأيام، بينما كانت تتجول في السوق، حدث ما لم تتوقعه. التقت عيناهما صدفة، فخيم الصمت بينهما. رأت الفرحة تلمع في عينيه وهو يهمس بشوق:
“روابي…”
تجمدت في مكانها، تتساءل بدهشة: أما زال يذكر اسمي؟
اقترب منها ببطء، مد يده ليصافحها، وحين لامست كفه يدها، شعرت بحنان دافئ، كأنه يحاول أن يعوضها عن قسوة السنين. خانتها مشاعرها للحظة، لكنه شعر بضعفها. بسرعة، سحبت يدها، لم تكن غاضبة منه، بل من قلبها الذي ما زال يحبه بلا قيد أو شرط.
قالت بصوت خافت: “يجب أن أذهب.”
نظر إليها بثقة، وابتسم قائلاً:
“اذهبي حيث تشائين… سأجدك مرة أخرى.”
خرجت من السوق وقلبها يخفق بشدة، لكنها هذه المرة لم تشعر بالحزن. كان هناك شيء مختلف، شيء يشبه الأمل، كأن اللقاء لم يكن نهاية… بل ربما كان بداية أخرى.