
في مثل هذا اليوم من العام الماضي، فجر الأربعاء، السادس من مارس 2024، توقف قلب أمي الحبيبة حبيبة عن النبض. في لحظة فارقة، أعلنت الحياة انتهاء مسيرة إنسانة عظيمة، بقدر عظمة التاريخ… متفردة كاسمها، ونادرة كالقيم التي جسدتها. كانت أمي روحًا نقية، وقلبًا رحيمًا، وملاذًا دافئًا لكل من عرفها.
وُلدت أمي حبيبة في زالنجي، تلك المدينة التي كانت لنا أكسجين الحياة، ربما في أواخر الأربعينات من القرن الماضي، قبل أن تنتقل برفقة أسرتها إلى مدينة الجمال نيالا البحير في أواخر الخمسينات. استقرت العائلة في منزل خال والدتها، بشير عثمان، الذي احتضنهم بحنان الأب، وكان سندًا لهم في غربتهم الجديدة.
رحلة الحب والعطاء
في عام 1964، تزوجت أمي من ابن خالتها هاشم (رمضان)، في علاقة امتزجت بالحب والتفاهم والودّ. لم تكن مجرد زوجة، بل كانت قلبًا نابضًا بالرحمة، وروحًا تحتضن الجميع. كان بيتها مفتوحًا لكل من لا مأوى له، وكان الزوار يتوافدون إليه من كل صوب. لم تعرف يومًا معنى الأنانية، بل كانت تجود بكل ما تملك، بحب ورضا.
في حي الجمهورية، حيث عاشت معظم حياتها، كانت محاطة بصديقاتها المقربات: وداد بقادي، فاطمة إبراهيم (جلول)، فاطمة سليمان (مرة ونص)، وهاجر إبراهيم، وكنّ يتشاركن الأفراح والأحزان، الأسواق والزيارات، الذكريات التي كانت ترويها لي وكأنها تعيشها من جديد.
الأم الحنون… عماد الأسرة
كبرت أسرتنا في كنف أمي، التي لم تكن مجرد والدة، بل كانت أختنا وصديقتنا، لم تعرف للصراعات طريقًا، وكانت توصينا دائمًا بالابتعاد عن المشاكل، بحكمتها المعتادة وابتسامتها الدافئة. كانت تردد: “السلامة غنيمة”، وكأنها تعلّمنا كيف نحفظ قلوبنا من أوجاع الدنيا.
أنجبت أمي ثلاثة أبناء: يحيى، محمد، وعبد الرحمن، وخمس بنات: زكية، شامة، خديجة، وداد، وزينب. لم تكن تفرّق بين أحد، بل منحت الجميع حبًا متساويًا، وكرست حياتها لرعايتنا، واحتضان أحفادها الذين غمرتهم بحنانها الفريد.
الرحيل… حين يغدو القلب أثقل من أن ينبض
في أكتوبر 2021، بدأ قلب أمي يشعر بوطأة الفقد، وكأنه استشعر قرب رحيل أبي، رغم أنها عاشت لأكثر من خمسة وعشرين عامًا وهي تتعايش مع ارتفاع ضغط الدم، إلا أن هذه المرة، كان قلبها يئن من وجع لا يُرى… رحل أبي بعد شهر واحد فقط، وتركها وحيدة، رغم أننا كنا حولها، لكنها لم تعد تشعر بنفس الدفء.
ثم جاءت الحرب اللعينة، تلك التي لم تكتفِ بتدمير وطننا، بل سلبتنا بيوتنا وأماننا، فاضطررنا إلى النزوح إلى أحد المعسكرات، حيث عشنا هناك عامًا ونصف، وأمي تكابد الألم بصمت. ذات يوم، اشتد بها المرض، فذهبنا إلى الطبيب، وهناك اكتشفنا إصابتها بالتهاب في الدم وانخفاض حاد في الضغط.
في يوم 19 فبراير 2024، زارنا ابن أختها الطيب محمود، وأصرّ على أن تصحبه إلى منزله في حي الجمهورية. هناك، وجدت رعاية لم أكن أراها إلا في أعيننا، لكنها لم تعد كما كانت، كان هناك شيء ما مختلف… كانت تستعد للرحيل.
طلبتُ منها أن نعود إلى المعسكر، فنظرت إليّ قائلة: “أنا تاني هناك ما راجعة”، وكأنها تودّع الحياة بعبارة بسيطة، لكنها تعني كل شيء. دخلت المستشفى بعدها بأيام، وحين ودّعتها آخر مرة، قلت لها: “مع السلامة، نلتقي غدًا”، فردّت بصوت خافت، لكنه اخترق روحي: “لو أصبحنا من ناس بكرة”…
وفي صباح الأربعاء 6 مارس 2024، توقّف قلبها الحنون، ذلك القلب الذي احتوانا جميعًا، لكنني لم أكن هناك… عدتُ لأجدها جسدًا مسجّى بلا حول ولا قوة.
وداعًا يا حبيبة…
أمي الغالية… أيتها الحبيبة حبيبة، رحلتِ جسدًا، لكنّ روحك ستظل تسكننا، وستبقى كلماتك ونصائحك ترشدنا في دروب الحياة. أسأل الله أن يجمعني بك في الفردوس الأعلى، حيث لا ألم، ولا فراق، ولا حرب.
إلى جنات الخلد يا أمي… يا حبيبة القلب والروح.