جيل المعرفة والقراءة: من البحث عن الكتاب الى عصر المعلومات الرقمية
بقلم: ناهد الروبي

في عصر التكنولوجيا المتسارعة، أصبحت المعرفة في متناول الجميع، وتعددت المصادر والمكتبات الرقمية، مما جعل الوصول إلى الكتب والمعلومات أسهل من أي وقت مضى. ومع ذلك، كان هناك زمن ليس ببعيد شهد جيلاً شغوفًا بالبحث عن العلم والمعرفة، جيلاً جعل من القراءة أسلوب حياة، إنه الجيل الذهبي، جيل التسعينيات وما قبله، الذي عرف قيمة الكتاب قبل أن تصبح المعرفة مجرد نقرة على شاشة.
مكتبة الدار السودانية.. من حلم إلى منارة ثقافية
في ستينيات القرن الماضي، لم تكن المكتبات العامة متوفرة بكثرة في السودان، واقتصرت على ثلاث مكتبات بارزة: مكتبة النهضة، ومكتبة الجامع الكبير، وسودان بوك شوب. وسط هذه الندرة، وُلد حلم صغير على يد السيد عبدالرحيم محمد مكاوي، الذي أسس مكتبة الدار السودانية في مدينة القضارف، قبل أن ينقلها إلى الخرطوم بحري، ومن ثم تستقر وسط الخرطوم في شارع البلدية، شرق ميدان أبو جنزير.
سرعان ما أصبحت مكتبة الدار السودانية واحدة من أكبر وأهم المكتبات في السودان والوطن العربي، وشكلت نقلة نوعية في الحياة الثقافية، حيث وفرت نافذة واسعة للمعرفة في زمن كان فيه الحصول على الكتاب مغامرة بحد ذاته.
تجارب القرّاء مع مكتبة الدار السودانية
لكل جيل من عشاق الكتب قصته مع مكتبة الدار السودانية، ومن بين هؤلاء نزار محمد توم، الذي استعاد ذكرياته قائلاً:
“كنت مولعًا بقراءة الروايات، وخاصة سلاسل المغامرات مثل ‘رجل المستحيل’ و’ما وراء الطبيعة’، حيث كانت تلك الكتب تفتح لنا عوالم مليئة بالإثارة والغموض.”
أما فيروز يونس، فقد وجدت ضالتها في الروايات الرومانسية، قائلة:
“كنت أجد متعتي في قراءة روايات عبير وزهور، التي كانت تحمل مشاعر رقيقة دون ابتذال، مما ساعدنا كمراهقين على فهم مشاعرنا وانجذابنا نحو الجنس الآخر بطريقة راقية.”
عالم كتب الجيب والمجلات الثقافية
في تلك الفترة، انتشرت سلاسل الكتب والمجلات الثقافية التي غذّت عقول الشباب، ومن أبرزها:
المغامرون الخمسة: شخصيات لا تُنسى مثل تختخ، لوزة، محب، عاطف، ونوسة، خاضوا مغامرات بوليسية شيقة.
المغامرون الـ13: سلسلة عربية جمعت أبطالًا من مختلف البلدان بقيادة “رقم صفر”.
ميكي جيب: قصص مصورة لشخصيات ديزني المحبوبة.
مجلة العربي: التي قدمت محتوى ثقافيًا غنيًا عبر مقالاتها المتنوعة.
تحديات المشهد الثقافي في عهد الإنقاذ
لم يكن المشهد الثقافي في السودان بعيدًا عن التأثيرات السياسية، خاصة خلال عهد حكومة الإنقاذ، التي أطلقت حملة “تجميل العاصمة” أو “إزالة التشوهات”، كما أسمتها. كان لهذا القرار تبعات عديدة، إذ أثر سلبًا على باعة الكتب الذين حُرموا من مصدر رزقهم، لكنه في الوقت ذاته ساعد في انتشار أسلوب جديد لبيع الكتب، حيث لجأ الكثيرون إلى بيعها على أرصفة شوارع العاصمة.
كما انعكس هذا القرار على الصحافة السودانية، التي كانت تعاني أساسًا من التضييق وتقليص مساحات حريتها، فضلًا عن الأوضاع الاقتصادية غير المستقرة التي أثرت على سوق المطبوعات الورقية. كانت الأكشاك تشكل نوافذ بيع رئيسية للصحف والمجلات، ومع إزالتها تلقت الصحافة المطبوعة ضربة قاسية زادت من معاناتها، ما دفعها تدريجيًا نحو التحول إلى الصحافة الإلكترونية.
والمفارقة أن الحكومة ذاتها التي أزالت الأكشاك عادت لاحقًا وسمحت بإقامة أكشاك لبيع الرصيد والتبغ (التمباك)، مما يطرح تساؤلات حول ما إذا كان قرار الإزالة بدوافع سياسية أم مجرد محاولة “لتجميل” العاصمة، كما ادعوا.
القراءة.. ملاذ الشباب وبوابة الأحلام
كان الشباب آنذاك يبحثون عن المعرفة وسط تحديات الحياة، فكانت القراءة الملاذ الآمن وبوابة الأحلام، وتجسدت هذه الحالة في المقولة الشهيرة:
“القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، والخرطوم تقرأ.”
لقد كانت مكتبة الدار السودانية أكثر من مجرد مكان لبيع الكتب، بل كانت منارة ثقافية أسهمت في تشكيل وعي جيل كامل، ورسخت قيمة القراءة كمصدر للمعرفة والإلهام في السودان. واليوم، رغم التطور الرقمي، تبقى تلك الذكريات شاهدة على عصر كانت فيه الكتب هي الصديق الأقرب والطريق الأجمل لاكتشاف العالم.