
منذ ليالٍ لم يعرف النوم طريقًا إليه…
كنت أراقبه في صمتٍ، ونحن نتقاسم غرفةً صغيرةً في بلاد المهجر،
غرفة أطلق عليها أصدقاؤنا، تهكمًا، غرفة الأحزان النبيلة.
كنا نتابع، أنا وهو، ما يجري في بلادنا…
القتل والتشريد، الدمار والخراب،
وأرواحٌ أعزّ علينا من الحياة تُزهَق برصاص الغدر،
مليشيات لا ترحم، لا تعرف سوى سفك الدماء.
قتلوا الكثير… فقط لأن ملامحهم لا تعجبهم!
رأيته يغرق في أحزانه،
يحرق سيجارة تلو الأخرى،
ينهض بين الحين والآخر إلى موقد الغاز،
يملأ صبارة القهوة من جديد، وكأنها عزاؤه الوحيد.
وحين يحاول أن يغفو، يجفل مذعورًا،
يمسك بهاتفه، يبحث فيه عن شيءٍ لا يأتي.
قلت له:
“هون عليك، يا أخي… من رحل قد استراح.”
لكنه نظر بعيدًا بعينين شارديْن، وقال بصوتٍ خافت:
“لكنها تزيد آلامي… تقرأ رسائلي ولا ترد!”
ثم جلس فجأة، اعتدل كمن يحمل حملًا لا يُطاق، وقال:
*”كانت سلمى… ثلاثة أعوام من الحب،
رتبنا كل شيءٍ ليجمعنا زواجٌ أبدي،
ثم اندلعت الحرب.
ثلاثة من إخوتي استشهدوا،
والدها السبعيني تعرّض لضربٍ مبرح،
نُهبت ممتلكاتنا، دُمّرت منازلنا…
لكننا رغم كل ذلك، وصلنا إلى هذا البلد.
كنا نتواصل كما لم نفعل من قبل،
لكن فجأة، منذ شهرين، تغيّرت…
هل النساء هكذا؟
هل اختارت أن تتركني؟
هل وجدت من يسعدها غيري؟*”
بدأ صوته يرتفع بطريقة هستيرية، ثم قال:
*”صورتها تتسلل إلى مخيلتي،
تُمتد يدي إلى الهاتف بلا وعي،
أنتظر اتصالًا منها…
أملٌ ينبت في فراغ الليل،
لكنه يخيب في كل مرة.
إنها الحيرة، إنه الشوق…
طيفها وفيٌّ كعادته،
يؤنسني في وحدتي،
يحدثني عن ليالٍ بنكهة الشهد،
عن مرارات الحرب،
عن صدمة الواقع في هذه البلاد،
عن تفاصيل محفورة بعمق في ذاكرتي…”*
حتى طلع الفجر، لم يتركني حديثه.
ارتشف آخر رشفةٍ من فنجانه،
ثم استلقى، ودموعه تغرق وسادته.
لم أره بهذا الضعف من قبل…
عجبًا للحب… كيف يكسر قلوب الرجال