
دُمِّرت حصونه بمقذوفٍ لا يخطئ، لكنه استجمع أشلاءه ونهض من بين الركام، كأنما يبعث من جديد. وقف أمامها، متهالكًا لكنه ثابت، وقال بصوتٍ تملؤه الرجاء:
“ارحمي ضعف رجلٍ استكشف عوالمكِ المدهشة، رجلٍ كل ذنبه أنه التقى بكِ وأحاسيسه في حالة خصوبة قاهرة.”
كان قريبًا منها حدّ الذوبان، كانت أنوثتها تملأ فضاءه، تتسرب إلى روحه كرائحة عطرٍ يسكن الذاكرة ولا يزول. لكنها، في اللحظة التي اقتربت فيها روحه من التلاشي بين يديها، قالت بصرامة:
“كُفَّ عن هذا العبث.”
تجمد في مكانه، كمن انتُزعت روحه وهو في ذروة انسجامه، وارتباكه، واقترابه. هل تحطم كبرياؤه على صخرتها الصلبة؟ هل كان خطأه الوحيد هو الاعتراف في التوقيت الخاطئ؟
تراجع قليلاً، أسند ظهره إلى جدار الريح، وكاد يهوي في بئر اليأس السحيقة، لولا عبارة أفلتت منها، بقصدٍ أو دون قصد، أعادت إليه شيئًا من توازنه.
“أنا لستُ مؤهلة بعد للحب، تمنعني عقبات.”
بمفهوم المخالفة، هل يعني ذلك أن زوال العقبات قد يفتح باب الاحتمالات؟ لم تقلها حرفيًا، لكنها لم تنفِها تمامًا. والغريق، كما هو معلوم، يتشبث ولو بقشة.
رحماكِ به يا امرأةً تأبى أن تُمنَح بسهولة، إنه رجلٌ يجمع بين قوتين متناقضتين تمامًا: قوة العاطفة وقوة الإرادة. حين يعشق، يكون هشًا إلى أبعد حد، وحين يقرر النسيان، يصبح عنيفًا في قراره، كمن يشعل النار في كل الجسور كي لا يعود أدراجه أبدًا.
الظلّ الذي لا ينتمي إلا لمعرفته وجهله، والماضي الذي يلوّح على الضفة الأخرى، هل حان وقت الوداع؟ هل سيذهبان في سراب الذكريات دون رجعة؟
الذكريات… كيف تبدو حين تنطفئ؟ كيف يكون طعم أيام الشجن حين يبتلعها الحنين؟ من يعلم أي أشكالٍ ستأخذ، وأي نوافذ ستُغلَق خلفها؟
هو البرق الذي لا يضيء أقبية الخفايا، والصوت الذي يتلاشى كما تلاشى المغني وهو يردد تلك الملحمة الغنائية، المترفة با
لوجع، والمثقلة بالحنين.